18 - 05 - 2025

مؤشرات |الهند والنفط الروسي والحرب الأوكرانية وزميلي "علي" ونحن العرب

مؤشرات |الهند والنفط الروسي والحرب الأوكرانية وزميلي

المتتبع للتطورات الإقتصادية في الهند يدرك أنها بلد تعرف جيدا ما تريد، وتتبع ما يمكن تسميته بسياسة "عدم الإنحياز" ليس إلا من أجل تحقيق مصالحها المختلفة، ومن خلال زياراتي المتعددة للهند على مدى سنوات طويلة، تعرفت على ما حققته الهند من تقدم، بالرغم من انتشار الفقر في العديد من المدن والقرى، والتفاوت الرهيب في الثروات، لا تنكره الهند، وهو حال كثير من دول العالم النامي.

والهند تسعى إلى انتهاز الفرص، أو قل توظيف الفرص، لربما يرى البعض أن "انتهاز الفرص" من الإنتهازية، ولكن المصلحة هي التي تحكم في عالم يشتد فيه الصراع للقضاء على دول، أو تحجيم دور دول أخرى في ميزان القوى، إلا أن الهند تعرف موقعها في العالم، تتمتع بسوق كبير، وشبه قارة، ويقطنها ما يقترب من 1.5 مليار نسمة "1.416 مليار نسمة"، تمثل 17.7% من سكان العالم، وبالتالي هي قوة إستهلاكية كبيرة، تقع على مساحة 3.287 مليون كيلو متر مربع.

واليوم والعالم يمر بواحدة من أكبر الأزمات العالمية الإقتصادية، عرفت الهند مصلحتها، من خلال التوزان بين علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا من جانب وروسيا من جانب آخر، لتقوم بهذا الدور بذكاء شديد.

وأتذكر هنا زميلي في جريدة الإتحاد "علي الهندي" الذي نجح في إتقان اللغة العربية بلكنتها المصرية تحديدًا، وكان علي وأعتقد أنه مازال يعمل بقسم خدمات شركة أبوظبي للإعلام، ومن ذكاء علي أنه حرص على التوازن في علاقاته مع كل العاملين في جريدة الإتحاد، والتي يعمل بها عشرات الجنسيات، ليتجنب ما أسميه بـ"صراع الجنسيات والشلل" والذي تعاني منه مختلف المؤسسات والشركات، حتى في البلد الواحد، وبين أبناء جنسية البلد الواحد.

واستطاع على أن يضبط من علاقاته بكل العاملين، بذكاء شديد، ويعتبر كل واحد هو المدير الأوحد، وكان علي يحكي لي يوميا عن مغامراته في وسائل المواصلات، خصوصا مع المصريين الذين يجيد لهجتهم، وتحديدا لكنة أهل بحري، وينسب لهم أنه من طنطا و الزقازيق، أو المنصورة، و كفر الشيخ، أو بنها، أو السيدة زينب، وغير ذلك، ولم يستطع أحد أن يكشفه، ولم يقع يوما في انتساب نفسه إلى صعيد مصر، لأنه يدرك جيدا أنه لا يجيد اللهجة الصعيدية، وهذا نجاح آخر لزميلي وصديقي "علي" في خلق توازن في علاقاته.

ليس "علي" إلا نموذجًا لسياسة الهند في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية، فقد أعلنت موقفا محايدًا في الأزمة، إلا أنه ضربت عرض الحائط بالعقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، خصوصا فيما يتعلق بشراء النفط، حيث فتحت أسواقها لشراء النفط الخام الروسي وبكثافة لتصبح أكبر مستورد له، وثالث سوق عالمي في شراء النفط في العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

ولكن ليس هذا هو المهم، بل الأهم هو تعظيم الإستفادة من  القيام بتكرير هذا النفط الروسي، وإعادة بيعه لدول "المقاطعة" نفسها و"الممانعة"، بل دولة مثل بريطانيا من أكبر مستوردي منتجات النفط الروسي من طرف ثالث، واعتبرت الهند خطواتها بشراء مصافيها الملايين من براميل النفط الروسي بسعر مخفض، يمثل الخيارات المتاحة.

ووضعت نيودلهي آلية تعامل بالروبية والروبل لتمويل واردات النفط خصوصا، تجنبا لإجراء التبادلات بالدولار الأميركي، فالهند مستورد رئيسي للنفط، حيث يمثل الإستيراد نحو 85% من احتياجاتها، ولهذا بدأت في البحث عن بدائل في ظل ما أسفرت عنه الأزمة الروسية – الأوكرانية، من ارتفاع في أسعار النفط، ولهذا لجأت للسوق الروسي، بديلا عن الأسعار المرتفعة من إيران وفنزويلا ذات التكلفة الأعلى، ومن خلال اللجوء إلى مصادر طاقة تنافسية.

ولتعزيز موقف الهند في شراء النفط الروسي، تؤكد نيودلهي مرارا أنها تدعو روسيا وأوكرانيا لوقف الأعمال العدائية، دون إدانة مباشرة للهجمات الروسية بل لم تصفه بأنه غزو، في محاولة للتأكيد على علاقاتها الوثيقة والتي بدأت منذ الحرب الباردة، بل إن الأرقام تشير إلى أن روسيا لا تزال أكبر مورد للأسلحة للهند

وراعت السياسة الهندية مصالحها أولا وأخيرا، لتلعب دورا متزايد الأهمية في أسواق النفط العالمية بعد العقوبات الجديدة على النفط الروسي، و عززت الهند مشترياتها من نفط موسكو الرخيص بهدف تكريره ومن ثم تصديره كوقود إلى أوروبا والولايات المتحدة، بل شحنت الهند حوالي 89 ألف برميل يومياً من البنزين والديزل إلى نيويورك منتجة من النفط الروسي "المحظور دخوله للأراضي الأميركية" وهذا الرقم هو الأكبر خلال 4 سنوات.

ومثل السوق الأوروبي فرصة كبيرة للهند لإعادة تصدير مشتقات النفط الروسي، ففي شهر واحد مع مطلع العام الحالي بلغت التدفقات اليومية للديزل منخفض الكبريت إلى أوروبا 172 ألف برميل، وهي أكبر كمية منذ أكتوبر 2021، في الوقت الذي واصلت فيه الهند التوسع في تصدير المنتجات البترولية بعد كل العقوبات من الاتحاد الأوروبي على روسيا.

والمؤكد أن شركات التكرير الهندية تحقق أرباحا كبيرة عن طريق شراء الخام الروسي منخفض السعر وإعادة تصديره للغرب بأسعار السوق، وذلك من اللحظة الأولى لدخول العقوبات النفطية الغربية على روسيا، فيما يسير الاتحاد الأوروبي في تنفيذ تطبيق وضع سقف على سعر النفط الروسي، تجاهلته نيودلهي.  

وتواصلت "الجعجعة" الغربية في ملف العقوبات المفروضة على النفط الروسي، فيما أن بلدا مثل بريطانيا تتلقى منتجات روسيا النفطية بالرغم من مشاركتها مع دول مجموعة الـ7 قرارها بفرض سقف سعري على تدفقات النفط الروسي المنقولة بحرًا.

وحرصت الهند على دورها الوسيط في هذا الملف الإقتصادي المهم، من خلال إستقبال خامات موسكو لتغذي مصافي التكرير بها ثم تعيد تصدير المشتقات لدول أخرى، حيث تؤكد تقارير دولية أن الهند كثّفت من وتيرة وارداتها النفطية من روسيا، وفي الوقت ذاته صدّرت نيودلهي منتجات مكررة بمعدلات كبيرة إلى بريطانيا، وهو ما يؤكد وجود ثغرات قانونية للعقوبات المفروضة على موسكو، وهو ما تستفيد منه الهند.. ونسيته دول أخرى منها منطقتنا.

وفي العام 2022 استقبلت أكبر مصافي التكرير الهندية "مصفاة جامناغار" شحنات الخام وزيت الوقود من موسكو بكمية تصل إلى 215 شحنة، بما يعادل 400% من معدل الشراء، خلال العام 2021، مع زيادة في واردات بريطانيا والتي وصلت من تلك المصفاة في فبراير 2023 حوالي 10 ملايين برميل من الديزل والمنتجات المكررة.

الأرقام كبيرة حول حركة  الاستيراد الهندي من النفط الروسي، وإعادة تصديره إلى أوروبا، وخصوصا بريطانيا، ليمثل النفط الروسي 25% من وارداتها من الخام، في تأكيد لمقولة "اللي تعرفه إلعب به"، فقد حددت نيودلهي هدفها وفق مصالحها، في صراع روسي أوكراني، ملئ بالتناقضات، ولا يعرف مداه أحد من كثرة تعقيداته، وتشابك مصالح الولايات المتحدة وأوروبا فيه، ولم تدخل في أي في اتفاقيات لتحديد سقف سعري، أو عقوبات على روسيا، لتبقى مصالحها أولا، بينما ما زالت بلداننا العربية تائهة.. فماذا نحن فاعلون؟! وهل سنظل في إنتظار "الفاعل" ونبقى "مفعولا بنا".!
----------------------------------
بقلم: محمود الحضري

مقالات اخرى للكاتب

مؤشرات | جولة ترامب والتريليونات والتطبيع .. والباقي وعود